التكرار هو إلحاح على جهة هامَّة من العبارة، يُعْنَى بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها، وهو بذلك ذو دلالة نفسية قَيِّمة، تفيد الناقد الأدبيّ الذي يدرس النصّ، ويحلِّل نفسية كاتبه، إذ يضع في أيدينا مفتاح الفكرة المتسلِّطة على الشاعر:
ويذهب الدكتور محمد مفتاح بمقولته عن التكرار إلى: ((أنَّ تكرارَ الأصوات والكلمات والتراكيب ليس ضرورياً لتؤدِّي الجمل وظيفتها المعنوية والتداولية، ولكنه (شرط كمال) أو "محسِّنٌ" أو "لعبٌ لغويّ))([1]) ويستدرك مقولته السابقة عن التكرار وأهميته قائلاً: "ومع ذلك فإنَّ التكرار يقوم بدور كبير في الخطاب الشعريّ أو ما يشبهه من أنواع الخطاب الأخرى الإقناعية"([2]).
إنَّ للتكرار ـ عند البدويّ ـ دوراً كبيراً في عكس تجربته الانفعالية، التي شكَّلها، ومن هنا: "فلا يجوز أن يُنْظَرَ إلى التكرار على أنَّه تكرارُ ألفاظ بصورة مبعثرة غير متصلة بالمعنى، أو بالجو العام للنصِّ الشعريّ، بل ينبغي أن يُنْظَر إليه على أنَّه وثيقُ الصلة بالمعنى العام"([3]). فالتكرار عنصر فعَّال في تكوين قصيدة البدويّ، فهو عندما يركِّز اهتمامه على اسم معين، يجعله النقطة "المركزية"، التي تتمحور حولها القصيدة.: كلّها، كما فعل في قصيدته "من كسعد"، التي تكرَّر فيها اسم العلم "سعد" ثماني عشرة مرة.
وللتكرار في شعر البدوي تجليِّات مختلفة منها:
أولاً ـ التكرار الاستهلاليّ:
وهو تكرار كلمة واحدة؛ أو عبارة في أول كل بيت من مجموعة أبيات متتالية، ووظيفة هذا التكرار التأكيد والتنبيه وإثارة التوقع لدى السامع للموقف الجديد، لمشاركة الشاعر إحساسه ونبضه الشعريّ([4]), وقد ورد هذا اللون من التكرار في قصائد عدة للبدوي، منها. "البلبل الغريب" و"حنين الغريب"، ونشير إلى أنَّ هذا التكرار ((يكشف عن فاعلية قادرة على منحِ النصّ الشعريّ بنية مُتَّسقة، إِذ إنّ كلَّ تكرارٍ من هذا النوع قادرٌ على تجسيدِ الإحساس بالتسلسلِ والتتابعِ، وهذا التتابع الشكليّ يعينُ في إِثارة التوقُّع لدى السامع، وهذا التوقُّع من شأنِهِ أن يجعلَ السامعَ أَكثرَ تحفُّزاً لسماعِ الشاعر والانتباه إِليه"([5]).
ومما لا شك فيه أنَّ التكرار الاستهلاليّ يسهم بما يوفّره من دفق غنائيّ في تقوية النبرة الخطابية، وتمكين الحركات الإيقاعية، من الوصول إلى مراحل الانفراج، بعد لحظات التوتّر القصوى، فلو أخذنا قصيدة البدويّ: "من وحيّ الهزيمة"، لوجدنا أنه يوظِّف التكرار فيها في بلورة موقفه المتوتِّر الرافض لكل مظاهر العبودية والاحتلال، وهذا ما انعكس على بداية بعض أبياتها، يقول البدوي:
"نحنُ أَسرَى وحينَ ضِيْمَ حِمانَا
كادَ يَقْضِي من حُزْنِهِ المأْسورُ
كلُّ فردٍ من الرعيةِ عبدٌ
ومن الحكمِ كلُّ فردٍ أَميرُ
نحن مَوتَى! وشرُّ ما ابْتدَعَ الطغـ
ـيانُ موتَى على الدروبِ تسيرُ
نحنُ موتَى! وإن غَدونا ورُحْنَا
والبيوتُ المزوَّقاتُ قبورُ
نحنُ موتَى! يُسِرُّ جارٌ لجارٍ
مستريباً: متَى يكونُ النشورُ؟
بَقِيَتْ سُبَّةُ الزمانِ على الطا
غِي ويَبْقَى لنا العُلَى والضميرُ"([6])
تتمحور الأبيات حول صورة أساسية هي صورة الضعف والموت، من خلال بنية التوتُّر والانفراج أو التحفُّز والتفريغ، المؤلَّفة من وحدتين معنويتين هما: "نحن أسرى" و"نحن موتى". تأتي فيهما الوحدة الثانية "نحن موتى" تكراراً لمضامين الوحدة الأولى: "نحنُ أسرى".
تتألف هذه الأبيات من وحدتين رئيسيتين هما:
أ ـ نحن أسرى/وحينَ ضِيْمَ حِمانَا كادَ يَقْضِي من حُزْنِهِ المأسورُ
ب ـ نحنُ مَوْتَى/ وشرُّ ما ابتدعَ الطغيانُ مَوْتَى على الدروب. تسيرُ
نحن موتى/ وإن غَدونَا ورُحْنَا...... والبيوتُ قبورُ
نحن موتى/.................... متى يكونُ النشورُ؟
كل وحدة من هاتين الوحدتين مبنية على أساس التحفُّز والتفريغ، أو التوتُّر والانفراج، الوحدة "ب" تأتي تكراراً للوحدة (أ)، والتكرار الذي تمثّله الوحدة (ب) هو تكرار الانطباع المتخلّف في النفس، الناتج عن دلالة الوحدتين. فالوحدة (أ) تخلِّف الانطباع المأساويّ الناتج عن الضعف والاستسلام، والوحدة (ب) تجسّد الانطباع السكونيّ العميق، والفناء الكليّ للذات بكلمة "موتى"، بتظافر الدول التالية: "قبور" و"نشور". ويُلاحظ أَن الجملة الأولى "نحن أسرى" تثير تحفز المتلقِّي، وتجعله يتوقع شيئاً ما، في حين أنَّ إشباع هذا الإحساس بالتوقّع قد تحقّق بالجمل التالية (نحن موتى) المكرَّرة، ومن هنا نستطيع القول: "يتحولُ البناءُ اللّغويُّ إلى جَسدٍ هلامِيٍّ، تكتسبُ الكلمة فيهِ، موقعَهَا الدلاليّ، وما تمليهِ رؤيةُ القارِئ من ترجيحٍ لإِحْدَى الصيغِ المحتملة على سِوَاهَا"([7]).
وإذا نظرنا في تكرار بنية الضمير "نحن" في التركيب، لاحظنا شيئاً لافتاً هو حضور الذات حضوراً سلبياً، وتجلِّيها تجلِّياً ساخراً كلياً، باقترانها بلفظة (أسرى) تارة، ولفظة (موتى) تارة أخرى، وكلتا اللفظتين (تهميش) أو تعطيل ظاهر للذات على المستويين الظاهريّ والباطنيّ، ومن هنا أصبح الضمير "نحن" يدلّ على الاضمحلال والضياع، بدلاً من الظهور والبروز، وأصبحت الأبيات مجرد صدى لصوت خافت، يتردّد ببطء شديد ثلاث مرات "نحن موتى"، ومن هنا تظهر أهمية الضمير من أهمية مرجعه في التركيب "لأنَّ الضميرَ يُشَكِّلُ على نحوٍ من الأَنحاء عالمَ الشاعر وحدودَ رؤيتِهِ له، وإِدراكَهُ لأَبْعَادِهِ"([8]).
وهناك أنواع أخرى من التكرار الاستهلاليّ، تكون بتكرار صيغة السؤال (الاستفهام) وصيغة الشرط، إذ تسهم هاتان الصيغتان في فتح المجال الدلاليّ وشحنه بقوّة إيحائية، تستدرج القارئ إلى إكمال النصّ، وتدفعه إلى البحث عن عناصر الغياب من نواقص وإجابات، وبذلك فهي تستثير الجدل والقلق، مجسِّدة ضغوطات وانفعالات نفسية متتالية، تشحن الشاعر بطاقة فاعلة في ممارسة الحوار والجدل والمساءلة، وقد جاء تكرار هذه الصيغ مقترناً بالحكمة والعظة، يقول بدوي الجبل في قصيدته "من وحي الهزيمة" الأبيات التالية:
"هَلْ درَتْ عَدْنُ أنَّ مسجدَهَا الأَقْـ