الفصل الأول
1
يوم الأمنية
ارتكنّا إلى حائط، وانضممنا إلى بعضنا.. أخرجت (مشيرة) شطيرة وبدأت تلتهمها في تأثر:
- أشعر بالذعر لكأني طفلة أضاعت أمها، أخبركما شيئًا؟ إن التيه لسيء! والرحلات مرعبة!
قالت (عصمت):
- هو خطئي من البداية أن أطعتكما، إن أطعتكما بعدها فلأُقتل أو أُشنق!
قلت لهما:
- لا تضخما الأمر؛ نحن لسنا في مجاهل أفريقيا، نحن عند الأهرامات.. يعني إذا تعذّر علينا الوصول للرفاق يمكننا ببساطة أن نستقل حافلة ونعود..
أشارت (مشيرة) إلى تجمّع على مد البصر:
- ما هذا؟
دققتُ النظر: كان تجمعًا للسيّاح حول شيء ما.. قمنا ننفض ملابسنا إلى هناك.. كان مزارًا للأمنيات: بئر جافّة عميقة محاطة بالأسوار، وعلى الزوّار أن يرموا عملاتهم ويتمنوا... وقد خدعهم أحدهم بأن أمنياتهم مُجابة..
صاحت (مشيرة):
- وااو!
وأخرجَت جنيهًا معدنيًا بسرعة وهمّت لترميه، لكنها توقفت على ضجّة ما.. استدرنا فإذا بمجموعة من الفتيات يقبضن على رجل عجوز يوسعنه ضربًا.. ويحاول تخليص نفسه فيلوّح بعصاه ولكنه لا ينالهن، فيزيدونه من ضرباتهن وسبابهن.. انفلتت منّا (عصمت) وذهبت إليه تدفعهن عنه في عنف، وتقول:
- أقسم أن أمزقكن إربًا إذا لمستن شعرة من هذا المسكين! لم تعد بالقلوب رحمة! ولئن لم أمنعكن عنه فلأُقتل أو أشنق!
توقفت الفتيات إذ تفاجأن بسلوك (عصمت)، ومن خلفها جاء ضابط أمن على عجل:
- ما الذي يحدث هنا؟
بادره العجوز بوهن:
- لا شيء! لا شيء!
قال الضابط:
- إذًا لا تجمهر. فليذهب كلٌ إلى حال سبيله.
برطمت الفتيات بكلمة أو اثنتين قبل أن يبتعدن.. ذهبتُ إليه: كان واهنًا جدًا مضعضع الجسد وعينيه منغلقتين، ربتُّ على كتفه، وأصلحتُ من ثوبه..
مدَّتْ إليه (مشيرة) يدها بالجنيه المعدني الذي كان معها، لكنه لم يبدِ أية استجابة، فطوت يدها بالجنيه، ويبدو أنها قارنت بين حالة العجوز وقيمة الجنيه، فأخرجت ورقة من فئة العشرة جنيهات مدّت بها يدها، ولكنه أيضًا لم يستجب.. هكذا ـ ومع انغلاق عينيه والعصا في يده ـ أدركنا أنه كفيف، فوضعناها في يده، وأجلسناه في أحد الأركان، واستأذنّا في الرحيل لكنه قال لاهثًا:
- لحظة!
ووضع يده في جيبه فأخرج عملة معدنية قديمة ومدّ يده بها قائلاً:
- أنتن بنات طيبات.. خذن هذه العملة، إنها من عالم ليس بعالمكن، اقذفن بها في البئر وتمنين أمنية!
التقطت (مشيرة) العملة بسرعة:
- وستتحقق؟!
ابتسم العجوز في رضا. كانت العملة مطموسة الملامح مع هذا تبيننا على أحد وجهيها رسمًا وعلى الآخر كتابة..
قالت (عصمت): لنرميها، علّها تستقر على ’الملك‘: السلطة والقوة والانحناء في حضرته
قالت (مشيرة): لنرميها ودعيها تستقر على ’الملك‘: الشهرة والجاه وإشارات الأصابع إليه
وقلتُ: ولماذا لا تستقر على ’الكتابة‘: الحرف، بث الروح.. أصل الأشياء ومنتهاها...
نظرنا إلى بعضنا وضحكنا، شبّكنا أذرعنا وسرنا إلى البئر نردد: معانا ريال معانا ريال... للـ..للـ..لا..... لللـ للـ لا،،،
للـ..للـ..للـ... للـ..للـ..للـ...
قالت (عصمت) لـ (مشيرة):
- هاتي العملة لأرميها
قالت (مشيرة):
- أنا من سيرميها..
- بل أنا
- بل أنا، أخبركِ شيئًا؟ وسأتمنى
- أنا من يرميها يا (مشيرة) وإن رماها غيري فلأُقتل أو أُشنَق
كنت أعرف ما الذي تتمناه كل منهما، (عصمت) المولعة بالحوادث والمجرمين والسفاحين، و(مشيرة) المهووسة بالنجوم والفنانين والمشاهير.. التفتُّ، سرحتُ في الأفق: وأنا.. عاشقة الأدباء والشعراء و.....
وقعت عيني على العجوز على البعد، كان ناظرًا إليّ بعينين متسعتين!!
وقع في قلبي: ألم يكن أعمى؟ التفتُّ أخبرهما، لكني وجدتُ (عصمت) وقد اختطفت العملة من (مشيرة) ورمت بها إلى العمق، تبعتها بعيني إذ تسقط هي وفكّي معًا.. ضمّت (عصمت) رأسينا بكفيها، وتمتمت بشيء ما! حررتُ رأسي حين استطعت قائلة:
- لماذا تعجلتِ يا (عصمت)! إن هذا الرجل مبصر، لقد كان فاتحًا عينيه الاثنتين الآن!
- ماذا تقولين؟
- ها هو! انظري!
لكنّا إذ نلتفت لم نجد له أثرًا لكأنه اختفى.. تحدثا إلى بعضهما:
- إنها تخرّف
- لقد أذابت الشمس رأسها
صحت بهما:
- اصمتا! إن هذا الرجل مريب، وأنا أخشى من تلك الأمنية، ماذا تمنيتِ يا (عصمت)؟
- دعكِ من هذا الآن... إن ما يشغلني لهو أخطر من هذا
- ماذا؟
وضعت ذراعها على كتفي إذ نسير وقالت:
- تلك البئر، المكدسّة بآلاف العملات والوريقات من كل لون... تُرى من الذي ينظفها ليلاً؟
أنزلتُ ذراعها في عنف:
- أنتِ لا تصدقينني.
ثم مددتُ الخطا، ومن خلفي أسمع (مشيرة) تحدثها:
- دعكِ منها واخبريني ماذا تمنيتِ يا (عصمت)؟
- لن أخبرك!
- بل اخبريني
- أخبرتك أني لن أخبرك!
- بل اخبريني، اخبريني، أخبركِ شيئًا؟ ستخبريني!
- بل لن أخبرك، لن أخبرك، وإن أخبرتك بعدها فلأُقتل أو أُشنق!
~.~.~
أول رواية رعب لكاتبة عربية
مقطع من الرواية:
أسود من رأسه إلى قدميه ويظهر فجأة في حمام بيتك، وليس الصرصور.. فما هو؟
كيف جاء.. من أين جاء.. شيئًا في عينيه أخبرني أنها أسئلة تافهة.. هو ليس بشريًا لأسأل أسئلة كهذه، إنما السؤال الحقيقي: كيف ينصرف.. ماذا يمكنني أن أفعل له حتى يتركني ويغادر.. وبرغم كل هذه الأسئلة لم أجد لسان أنطق به.. شدهت...
- ابصقي روحك.
نظرتُ إلى عينيه في رعب:
- ماذا؟
- بعدما حصلتِ على ثمن روحكِ اجلسي راضية بين يدي ها هنا وابصقي روحك..
- لكني لم أحصل على شيء!
أخرج دفترًا من جيبه وقال:
- مُدَون عندي أن اللعنة بدأت منتصف ليل الجمعة، حملها إليكِ مسافر على طريق مهجور، وأنه منحك خمس عطايا سوداء ممسوسة بماء الوهب المخلوط بدمه. فإما أن تبصقي روحك راضية..
واقترب مني حد الالتصاق:
- أو أجذبها منك كراهية..
~
لأني الأكرم:
أمنحك خمس عطايا، مقابل روحك
وإن كنتَ الأكرم
فلتمنحني خمس أرواح مقابل عطيتي!
~
فصل من الرواية
رفع طرف ثوبها ونظر إلى فخذها وقال:
- لا بأس.
اضطجع على الأريكة وجرع ما في كأسه قائلاً:
- أتعدّين لي الغداء أم.... آكل بالخارج؟
تذكرت مقولة أمها: "إن أقصر طريق لقلب الرجل معدته".. هتفت:
- لا لا! حالاً!
وبعد قليل، كانت شريحة من اللحم اللذيذ على المائدة أمامه، رفعها إلى فمه وقال:
- ألازالت ساقكِ تؤلمك؟
- نعم
- غريب!
تعلقت عينه بساقها العارية وهو يقول:
- ألن نتمدد قليلاً بعد الغداء، أم... ستقولين: ’مُتعَبة‘؟
ضغطت بيدها على موضع الألم علّها تغلق فمه، تذكرت مقولة أمها: "إن الزوجة التي تمنع نفسها عن زوجها تلعنها الملائكة"، هتفت:
- لا لا! نتمدد
دقائق، واستدار عنها متناولاً ملابسه:
- سأخرج، هل تحبّين أن أعود على العشاء أم.... آكل بالخارج؟
تذكرت عبارة أمها: "إن الرجل الذي لا يهنأ في بيته يبحث عن السعادة بالخارج".. عاجلته:
- لا لا! سانتظرك!
أغلقت الباب خلفه، أسنّت السكّين، مدّت ساقها، تخيرت الموضع، وأعملت السكّين.عندما يحل الظلام
وآوي إلى الفراش
يبدأ المسخ الذي كان فارسي،
في التجسد.
أحني رأسي
أرفع الغطاء
يجثم على صدري
ويراودني عن قبلة
بأنيابه الصفراء
ورائحته العطنة.
أبدأ في الصراخ
تبدأ شبيهتي تطمئنني:
- إنه ليس موجودًا
ليس موجودًا
- اصمتي
- إنه ليس موجودًا
ليس موجودًا
- اخرسي
- إنه ليس موجود
- أعرف
أعرف
ولهذا أنا خائفة.
من ضمن الظواهر الغامضة في العالم ثمة ظاهرة تسمى: ’كتاب الرعب‘، وهذه الظاهرة بدأت في القرن الثامن عشر في الغرب، ووصلتنا متأخرة ككل شيء، لكنها حين وصلت لم نستقبلها استقبالاً حافلاً لا إعلاميًا ولا نقديًا، ولا تناولناها بالتحليل. وفي المحاولة الأولى لدراسة الظاهرة لوحظ على أفراد الظاهرة اشتراكهم في عدة صفات:
1. إنهم مذعورون
لا يغرنّك أنهم يكتبون الرعب، إنهم يخافون إلى حد أن يصدّروا مخاوفهم للآخرين، أو بمعنى آخر، يبيعونهم إيّاها. فمن ناحية يتخلصون منها، ومن ناحية يلصقونها بآخرين، والطريف أننا نحن الآخرون الذين يشترون المخاوف ويدفعون في المقابل أيضًا
(ستيفن كينج)، ملك أدب الرعب، يقول: "إننا بقدر ما نتحدث عن هذه الأشياء بقدر ما نتفادى آثارها السلبية"، وهو يؤمن أنه بكتابته الرعب إنما يصنع حوله دائرة تمثل الحدود الآمنة التي لا يمكن للشرور أن تتجاوزها. (كينج) كان طفلاً خوّافًا، استطاع أن يحتفظ بمخاوف طفولته، ويستقيها في أعماله فيما بعد.
و د. (أحمد خالد توفيق)، رائد أدب الرعب العربي، لم يكن أشجع من (كينج). كان يهاب كل الأشياء، وكانت أقسى مخاوفه فكرة: ’أن يموت والده‘، وذات مرة، وبنفس منطق التخلص من المخاوف كتب كل مخاوفه في ورقة ثم دس بها في فراغ بجدار المدرسة، ومضى. وبالرغم من أنه شعر بتحسن، لكنه إلى اليوم لا يملك جرأة السير جوار ذاك الجدار.
(ستيفن كينج) ينام متلفحًا بالغطاء ولا يمكن أن يبدي ساقه العارية من تحته إذ يخشى أن تمتد يد باردة فتمسك بها. كما ينام والنور مضاء، وعندما يسألونه يتحجج بـ: "كي أكتب الخواطر وأسجل الأحلام التي تزورني". لكننا نعرف الآن لماذا يفعل.
مستحيل أن تقنعني بالعكس، إنهم غرباء الأطوار، غرباء الأطوار، ويمكنني أن أقولها ألف مرة!
بالله لماذا تنزل فتاة جميلة للمدعوين إلى حفل ميلادها في تابوت؟ لماذا تفعل إحداهن ذلك إلا إذا كانت كاتبة رعب وتسمى (آن رايس)!؟
إنها في الوقت ذاته فظّة تصد المعجبين ولا تجد حرجًا في أن تنعت القاريء بالغباء إذا ما أبدى رأيًا سلبيًا في قصصها.
(ستيفن كينج) كذلك ليس على ما يرام.. هل ينفق أحدهم أمواله من أجل شراء شاحنة ثم يحرقها؟ لقد تنازل عن أية تعويضات عن الإصابة التي تعرض لها إثر الاصطدام بالشاحنة مقابل أن يشتريها ويحرقها، ثم يحتفل بذكرى إحراقها كل عام تخلصًا من الثقل النفسي للحادثة. المصادفة العجيبة أن سائق الشاحنة يدعى (براين سميث) وهو نفس اسم إحدى شخصيات رواياته.
وقد صرحت زوجة (كينج) أنه يعيش مع الأشباح، وأنها هي مصدر إلهامه بالقصص المريعة التي يكتبها، حيث تقص له حكاياتها التي أردتها أشباحًا.
وبالرغم من إمكانية النظر إلى التصريح السابق باعتباره شائعة، إلاّ أن حتى الشائعات التي يتم إطلاقها عن أفراد الظاهرة موضع الدراسة غريبة مثلهم. فبالمثل أطلق زوج (شيرلي جاكسون) شائعة مشابهة حين قال أن زوجته تمارس السحر، وكان يهدف إلى الترويج لرواياتها. تلك المساعدة التي لم تتقبلها (شيرلي) وأغضبتها، فقررت أن تنفيها في كتابها التالي.
و(شيرلي جاكسون) كاتبة رعب يندر أن تسمع عنها لأنها لا تجري لقاءات صحفية ولا تجيب عن أي استفسار حول قصصها ولا ترد على رسائل القراء بالمجمل، وقد ضايقها جدًا أن لاقت إحدى قصصها صدىً واسعًا، وحفزت آلاف القراء لمراسلة الصحيفة التي نُشِرت بها.
أما د. (أحمد خالد توفيق) فلا أقدر على قول شيء عنه، فقط أخبركم أنه مسح رواية كاملة من رواياته (أسطورة العلامات الدامية) بعد تمام كتابتها وقبل نشرها لأنه شعر بعدم جدوى الكتابة، هكذا مسح الرواية من حاسبه، ثم استخدم برنامجًا ليمسحها سبع مرات متتالية حتى لا يفكر ثانية في استعادتها. لذلك حين هدأت ثورته لم يتمكن فعلاً من استعادتها، فاضطر إلى كتابتها من جديد.
3. إنهم رومانسيون
إنهم لُطاف حالمون، تشبيهاتهم ساحرة، ولغتهم شاعرية. إنهم يثيرون ذعرك برقة حتى لتندهش حين تنهي القراءة: كيف ارتعبت مع هذه الرقة؟
إن أديب الرعب الأشهر وأبا القصة القصيرة بالمجمل (إدجار آلان يو) كان شاعرًا. وكانت قصائده مفرطة الكآبة كما كانت قصصه.
و(ماري شيللي) كانت فتاة رقيقة في التاسعة عشرة من عمرها وزوجة لشاعر حين كتبت (فرانكنشتاين).
أما (برام ستوكر) صاحب (دراكيولا) فقد كتب قبلها وبعدها روايات رومانسية. حتى إن روايته: (ممر الثعبان) يصعب معرفة تصنيفًا لها فبعض المراجع تصنفها رواية رومانسية، والبعض يصنفها رواية رعب.
ولعل تفسير ذلك اهتمام أغلب أفراد الظاهرة بالرعب القوطي، وهو نوع من الرعب يندرج تحت المدرسة الرومانسية، ويمكن تعريفه بأنه الرعب مضاف إليه عنصر الرومانسية، ويدور هذا النوع من الرعب في أجواء خاصة مثل القلاع والقصور المظلمة والبروق والرعود والأمطار وأضواء الشموع ويتناول النفوس المعقدة والمجهول.
ويرى كاتب الرعب الكويتي (ماجد القطامي) أن ثمة عامل مشترك بين الرومانسية والرعب، فكلاهما يتعامل مع الإنسان في أوهن حالاته: الحب، والخوف. ويضعانه في حالة من الاستسلام.
أما د. (أحمد خالد توفيق) فيرى أن العنصر المشترك بين الرومانسية والرعب هو: ’الهروب‘.. فكلاهما هروبًا من الواقع إلى عوالم خيالية، سواء كانت حالمة، أو مرعبة.
إنهم صالحون لإذابة قلب الحجر، ولديهم خبرات طفولة مريعة. ولعل أكثرهم بؤسًا (إدجار آلان بو) حيث مات والده، ثم ماتت والدته في عمر العامين، وأصيبت زوجته بالسل من ثم ماتت دون أن يملك ثمن علاجها، أو كفنها. ومن قبلها: ماتت فتاتان أحبهما.
وكان (بو) يكتب للتربح، ويشارك في المسابقات طمعًا في قيمة الجائزة، وبالرغم من إبداعاته العديدة مات معدمًا. (هـ. ب. لافكرافت) أيضًا مات مفلسًا، بعكس (كينج).
(كينج) المليونير الذي يعمل كاتبًا وتزيد أرباحه كل ساعة، والذي لا يكف لحظة عن المطالبة بأرباحه، لم يكتب أبدًا من أجل المال، وإنما للاستمتاع. في طفولته انفصل والده عن والدته، وقيل له أن والده ذهب لشراء سجائر، غير أنه لم يسمع قط أنه عاد. في روايته (قلوب في أطلنطس) نجد نموذج الطفل الذي يعيش مع والدته بلا أب، ويتعلق بنزيل كأب بديل. وفي طفولته أيضًا رأى (كينج) صديق له يُدهس تحت القطار.. تلك الخبرة التي اعترف أنه لم ينسها قط.
(دين كونتز) كذلك عانى من قسوة والده مدمن الكحوليات، و(ماري شيللي) التي ماتت والدتها في صغرها، بالضبط لم يغفر لها والدها هذا، ألا يمكن النظر لمسخ (فرانكنشتاين) الذي أنتجته، باعتباره طفل غير مرغوب فيه من قِبل والده؟
إنها تملك مخاوف حول إمكانية إنجابها ثانية بعدما ماتت طفلتها، ألا يمكن اعتبار المسخ مولودًا بلا أم، في رحم ذكوري هو المعمل، وبعد تجارب استمرت لتسعة أشهر كفترة حمل؟
(جى. كى. رولينج) صاحبة سلسلة (هاري بوتر)، طردها زوجها من البيت وطلقها، وبصعوبة استطاعت ضم حضانة ابنتها، وكانت تقترض لتتمكن من العيش، وحين كتبت (هاري بوتر) عرضتها على اثني عشر دار نشر كلها رفضتها، والدار الثالثة عشر نشرتها على أن تختصر اسمها إلى الحروف الأولى لأنها لا تثق أن القاريء سيقبل على قصة أطفال تكتبها امرأة.. والآن، هي أول سيدة مليارديرة من الكتابة.
إنهم بؤساء، نعم، لكنه ذلك البؤس الذي تتمناه إن ضمنت أن تنتج إبداعهم
عندما تمر تحت شرفة ستّي (مشحوتة)، حاذر أن تتسخ ملابسك بقطرات غسيلها القذرة.
مسكينة ستّي... غرق طفلاها الاثنان في الترعة.. ومنذ ذلك الوقت وهي تكرههما معًا: الماء والأطفال. ويبدو أنها مشاعر متبادلة، فلا الأطفال يحبونها ولا الماء يصعد شقتها في الطابق العلوي. العجائز يبسطون أيديهم ويقولون: "طيبة لكن، عقلها مفوّت" والأطفال تجري وراءها في الشارع وتقول: "العبيطة أهيه!" ويزيدون: "العبيطة اللي مبتستحماش".
نزلت أنا و (جاد) نحمل الجرّة لنملأها من الطرمبة جوار الترعة... وكلما رآنا آحدهم وعرف أننا نعمل عندها سألنا باستنكار: "وملقيتوش غير (مشحوتة)؟".. لا أعرف كيف أجيب.. لكن (جاد) يحني رأسه ويقول: "معلش"
تركت (جاد) عند الطرمبة ورفعت طرف جلبابي وعقدته على خصري فبدا بنطالي المزركش من تحته.. جلست على حافة الترعة أدلّي ساقيّ وأطوّح بهما في الماء، فجاءني صوت (جاد) من الخلف:
- بلاش يا (ريما)، ستي محرّجة علينا نلعب بالميّه
- هبقى أنزل الجلبية ع البنطلون مش هيبان
جلس جواري ضامًا ساقيه إلى صدره وناظرًا لي... نظرتُ إليه وربما ابتسمتُ قبل أن تقع عيناي على ما خلفه وأصرخ في هلع: كان هذا (سعد) يدفع (جاد) بكلتي يديه ليسقط في الترعة. انحنيت على (جاد) مددت يدي له أساعده في حين أقول لـ (سعد):
- ليه يا (سعد)؟ إيه بس غرضك في الأذية؟
- عشان يستحمى خدّام العبيطة اللي مبتستحماش
صعد (جاد)، ووقف يرتجف في جلبابه المبتل:
- وهنعمل إيه دلوقتي يا (جاد)... ستّي هتضربنا
رمق (سعد) بنظرة جانبية وقال:
- معلش
على الباب، نظرت ستّي إلى جلباب (جاد) وقالت بحقد:
- إنت لعبت بالميّه؟
ارتبك (جاد)، ولم يجب. نظرَت لي ستي وقالت:
- إنزلي هاتي حبل تخين من البقال
نظرت بتردد إلى (جاد)... هل ستضربه بالحبل أم تربطه به؟ هذه المجنونة... هل تفكر في شنقه؟ انتفضت مع صرختها:
- ياللا!
جريت إلى أسفل، وعدت بأقصى سرعة وإذ أمر تحت شرفتها سقطت على ذراعي ورأسي قطرات من غسيلها القذر.
صعدت، وناولتها الحبل فالتقطته وجرت إلى الشرفة، وراحت تثبته إلى جوار حبال الغسيل.. أين (جاد).. سمعت صوت تمزّق أربطة ولاح لي من وراء جسدها الضخم جلباب (جاد) الأبيض.. هل نشرت الجلباب ليجف؟
ملت بجذعي قليلاً لأتمكن من الرؤية، انكتم صوتي للحظة ثم صرخت بأعلى صوت: هناك على الحبال جلباب (جاد) منشورًا، وبداخله: (جاد).
التفتت لي ستّي وقالت باندهاش:
- في إيه؟
صوت التمزق يتزايد.. وقدّرت أنه بين لحظة وأخرى سيسقط (جاد).. تراجعت للوراء وأنا أردد:
- نزّليه! نزّليه!
اقتربت مني وقالت بحنان:
- متخافيش.. هينشف
في هذه اللحظة تذكرت بنطالي المبتل، رجف قلبي ونظرت للأسفل، ستكون كارثة لو لاحظت. صوت التمزق يتزايد... جريت إلى سور الشرفة... طالعتني عينا (جاد) المحتقنتان: إن كتفيه ممزقين في موضع المشابك المعدنية العملاقة، وتتساقط من جسده الدماء، بينما شفتاه تردد: "معلش". نظرت إلى القطرات التي سقطت على ذراعي إذ أصعد إلى العمارة.. إنها قطرات حمراء.. قطرات دماء..
ملت بجذعي لأساعده، ولكن ستي جرت إلي تبعدني وتحاوطني بذراعيها:
- إوعي تقعي يا مجنونة!
سمعت صوت تمزق الحبال يصل مداه، ثم يتوقف نهائيًا، شهقت وأخفيت عيني بيدي: اختفى (جاد) من أمامي، ودوّى صوت الارتطام.
هويت على الأرض، نقّلت ستّي بصرها بيني وبين الحبال المقطوعة وقالت في ألم:
- معلش!
رحت أرتجف وأبكي فضمتني ستي إلى صدرها، حتى لحظة أبعدت وجهي ونظرت لي بحدة:
- (ريما).. إنتي مبلولة!
جفت دموعي فجأة.. دق قلبي بعنف:
- دي... دي دموع يا ستي!
رفعَت طرف جلبابي وجسّت بنطالي، وقالت مستنكرة:
- دموع!!؟
نظرتُ إلى الباب.. يجب أن أحرر نفسي من بين ذراعيها وأفر، لكنها في لحظة لوت ذراعيّ خلف ظهري وقيدتهما بالحبال، وفي اللحظة التالية قيدت ساقيّ. ثم ذهبت إلى الشرفة تتابع تثبيت الحبل الجديد.
تجمع الناس أمام الباب يطرقون في عنف.. ولكن ستي لا تفتح. صرخت بأعلى الصوت:
- إلحقوني.. هتنشرني
قالت برفق:
- متخافيش يا (ريما).. الحبل القديم مستحملش عشان رفيّع.. لكن دا هيستحمل.
توسلتُ إليها:
- متنشرينيش زي (جاد) يا ستي! حرّمت!
تقترب مني:
- لا يا (ريما)! مش هنشرك زي (جاد)!
تذهب إلى الخارج وتعود بعد لحظة حاملة ساطورًا، تحملني وتضعني على الطاولة... أصرخ في هيستيريا، تتابع:
- (جاد) بلّ جسمه كله، إنما إنتي...
الطرقات تتزايد.. ليتهم يفعلون شيئًا.. ليتهم يكسرون الباب.. ترفع الساطور إلى خصري:
- إنتي بلّيتي رجلك بس!
وتهوي به.
ربما، في هذه اللحظة انفتح الباب.
.
.
.
من أجل هذا أقول: عندما تمر تحت شرفة ستّي (مشحوتة)، حاذر أن تتسخ ملابسك بقطرات غسيلها الدام